دنانير شجر الدر

347

شجر الدر.. ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين أم خليل الصالحية

كانت “شجر الدر” الجارية ذات الأصول التركية واحدة من جواري الملك الصالح نجم الدين أيوب ، و قد تمتعت بالذكاء الحاد و بقوة الشخصية و بالجمال الأخاذ ، تلك الخلطة التي اذا اجتمعت لدى امرأة صار تأثيرها عظيما على الرجال ، أما ان كان هؤلاء الرجال ملوكا فحينها يمتد تأثيرها لمصائر دول و شعوب بأكملها ، و بخلاف ما تمتعت به “شجر الدر” من قدرات مكنتها من أن تصبح سريعا أقرب المقربين للملك الصالح.

هناك أيضا سياقا تاريخيا مهد لها الطريق لتصبح أول ملكة لمصر الاسلامية و ثالث ملكة في تاريخ المسلمين ، و بشكل أو بآخر لقد لعبت “شجر الدر” أدوارا هامة في تاريخ الشرق و الغرب استمرت تأثيراتها لما بعد وفاتها المأساوية ، فحين أخفت “شجر الدر” خبر موت الملك الصالح في خضم معركة مصيرية مع الصليبيين ؛ و تمكنت من السيطرة على أمراء المماليك الصالحية و دفعتهم لنصر حاسم قضى تماما على الحملة الصليبية السابعة ؛ و حين حرضت بعد ذلك نفس أمراء المماليك على قتل “توران شاه” ابن زوجها و الوريث الشرعي لسلطنة الأيوبيين ؛ و حين رضخ الأمراء و الوجهاء لسلطانها و اعترفوا بها كملكة عليهم.

هي بكل ما سبق و غيره كانت تضع فصل الختام للحملات الصليبية الكبرى على المشرق طاوية معها صفحة الدولة الأيوبية في مصر و الشام ؛ و في نفس ذات الوقت تخط بيدها السطر الأول في صفحة دولة المماليك ، و حتى حين اختارت المعز أيبك التركماني زوجا لها و تنازلت له عن العرش لم يكن الأمر مجرد انتقالا للسلطة بل تفضيلا لعنصر على باقي العناصر المملوكية ، و ستستمر هيمنة هذا العنصر على الحكم لأكتر من قرن ، و لذلك عندما نتحدث عن “شجر الدر” فنحن لسنا بصدد الحديث عن جارية صارت ملكة بالمصادفة قبل أن تقتل ضربا بالقباقيب و تلقى جثتها من أعلى أسوار القلعة ؛ بل نحن بصدد الحديث عن امرأة استثنائية لازالت بصمتها التاريخية واضحة  للعنان حتى بعد انقضاء قرونا من الزمن.

النموذج الأول

حكمت “شجر الدر” كملكة لأقل من ثلاثة أشهر ، لكن تلك المدة كانت كافية لتضرب خلالها نقودا باسمها في القاهرة حصرا ، و بالطبع كانت الدنانير على رأس تلك النقود ، و يبدو أن الاستثنائية التي تمتعت بها شخصية “شجر الدر” قد ألقت بظلالها على دنانيرها ، فبشكل عام يعد دينار شجر الدر أحد أهم و أندر المسكوكات الاسلامية ، و بعد بحث مطول توصلنا لثلاثة نماذج فقط تم نشرها ، و لم يكن ذلك البحث سهلا فدينار شجر الدر لم يظهر مطلقا بأي من المزادات العالمية ، كما لا يمكننا الجزم بأن تلك النماذج الثلاثة هي فقط ما وصلنا من دنانير شجر الدر ، فلربما هناك نماذج أخرى غير منشورة.

نقش على وجه دينار “شجر الدر” المأثورات التالية:

المؤمنين

المستعصمية الصالحية

ملكة المسلمين والدة

الملك المنصور خليل

أمير

دينار شجر الدر الأول
دينار شجر الدر (الأول) – المتحف البريطاني بلندن – كان من مقتنيات الخديوي اسماعيل و قد أهداه للقنصل البريطاني بمصر و الذي بدوره أهداه للمتحف
دنانير شجر الدر
السير تشارلز أوغسطس موراي ، القنصل العام البريطاني في مصر ، قام بإهداء الدينار (الأول) للمتحف البريطاني سنة 1849 

و نلاحظ في تلك الصيغة وضوح الغرض السياسي ، و كأننا بصدد ملكة تبحث عن الشرعية ، فتنسب نفسها مرة للخليفة المستعصم و مرة للملك الصالح زوجها المتوفي ، ثم تمنح نفسها لقب “ملكة المسلمين” و هو لقب غير مسبوق ، و لا تنسى الاشارة لأنها قد أنجبت ولدا للملك الصالح لُقِّبَ بالمنصور خليل ، فهذا الولد كان فالحقيقة تذكرة الحرية بالنسبة لها كجارية سابقة ، و رغم أن “خليل” هذا قد مات في سن صغيرة إلا أنها لقبته بـ “الملك” على دينارها ،

و لا يفوتنا الانتباه للتورية في استخدام اسم خليل متبوعا بـ “أمير” في الأسفل و “المؤمنين” في الأعلى ، و كأنه لقب في حد ذاته ؛ “خليل أمير المؤمنين” ؛ هنا يتحول الاسم لصفة ، و لا غرابة أن يأتي بعد ذلك من يلقب نفسه بـ “قسيم أمير المؤمنين” ، و التدرج في المعنى هنا يستحق التأمل ،،، الخلاصة أن “شجر الدر” سعت بدهاء و حنكة لاستجلاب الشرعية ، و نرى ذلك بوضوح في مأثورات و ألقاب تكشف لنا بعد قرون ما كان يدور في ذهن المرأة التي انتقلت من الحرملك لسدة العرش خلف أسوار قلعة الجبل

الثلاثة نماذج المنشورة لدينار “شجر الدر” و التي قد أشرنا إليها ؛ أولها موجود حاليا لدى المتحف البريطاني بلندن ، كان هذا الدينار من مقتنيات الخديوي اسماعيل حفيد محمد علي باشا ، و يبدو أنه قد أهداه للقنصل البريطاني بمصر ؛ السير “تشارلز أوغسطس موراي” ، و الذي بدوره قام باهدائه للمتحف البريطاني سنة 1849 ، كان اسماعيل في ذلك الحين صغير السن أقل من عشرين عام ، و لم يكن قد تسلم الحكم بعد ، و لا نستطيع الجزم بكيفية تحصله على الدينار و لا بملابسات اهدائه للقنصل البريطاني ، و جدير بالذكر أن السير “تشارلز موراي” عمل في مصر كقنصل عام لبريطانيا خلال الفرة بين عامي 1846 – 1853 ؛ لم يقم خلالها بنقل أول دينار ينشر لشجر الدر فقط بل قام أيضا بنقل أول حيوان فرس النهر يصل أوروبا منذ عهد الامبراطورية الرومانية القديمة

دنانير شجر الدر
الخديوي اسماعيل في شبابه قبل تسلم الحكم ، نفس الفترة التي أهدى فيها الدينار (الأول) للقنصل البريطاني
دنانير شجر الدر
الطبيب و خبير المسكوكات الشهير بول بالوج في شبابه ، الصورة مأخوذة من أحد الوثائق الثبوتية الصادرة في مصر عام 1929 

النموذج الثاني

أما الدينار الثاني فكان ضمن مجموعة هاوي الاقتناء و خبير المسكوكات الشهير الدكتور “بول بالوج” ، و قد نشره سنة 1964 في كتابه الأشهر:

“The coinage of the Mamluk sultans of Egypt and Syria”

 و في ختام حياته أوصى “بالوج” بإهداء عدد كبير من القطع للمتحف الاسرائيلي بالقدس – 5358 مسكوكة – و من ضمنها دينار “شجر الدر” الذي كان قد اشتراه من تاجر محلي أثناء اقامته في مصر بعد هجرته إليها عام 1926 و عمله كطبيب ، لكني لم أتمكن من الوصول لصورة حديثة لهذا الدينار و ليس لدي سوى الصورة القديمة المنشورة بكتاب بالوج ، و يبدو أن هذا الدينار لم يلقى من المتحف الصهيوني ما يستحقه من اهتمام من حيث اعادة دراسته منفردا و نشره بالقدر الذي يتيح معلومات محدثة و مفصلة عنه و ذلك استكمالا لما قام به بالوج منذ فترة طويلة

دنانير شجر الدر
دينار شجر الدر (الثاني) – موجود حاليا بالمتحف الاسرائيلي بالقدس – كان ضمن مجموعة الدكتور بول بالوج و قد أوصى في ختام حياته باهداء عدد كبير من المسكوكات للمتحف الاسرائيلي كان منها هذا الدينار ، و هذه هي صورته القديمة التي نشرها بالوج بكتابه عام 1964
دنانير شجر الدر
بول بالوج قبل وفاته بفترة قصيرة

النموذج الثالث

أما الدينار الثالث فموجود حاليا بدولة الامارات العربية المتحدة ضمن احدى المجموعات الخاصة ، و مالكه يدعى الأستاذ “يحيى جعفر” خبير بالمسكوكات الاسلامية و له العديد من الأبحاث في هذا المجال ، و قد قامت الباحثة المصرية “إيمان عرفة” بدراسة و نشر هذا الدينار سنة 2016 – بعد موافقة مالكه بطبيعة الحال – في بحث متكامل بعنوان

“The legitimacy of SHAJAR AL-DURR reign as represented in light of a Rare Dinar”

و ليس لدينا معلومات عن كيفية وصول هذا الدينار لمالكه الحالي 

دنانير شجر الدر
دينار شجر الدر (الثالث) – يوجد حاليا بدبي ضمن مجموعة السيد الأستاذ يحيى جعف
دنانير شجر الدر
السيد الأستاذ يحيى جعفر خبير المسكوكات و مالك الدينار ( الثالث ) – دولة الامارات العربية المتحدة

لا يصح أن نختم مقالنا هذا من دون نظرة سريعة لقوالب النماذج الثلاثة التي تحدثنا عنها ، و باختصار شديد يمكننا الجزم بأن الدنانير الثلاثة لم تضرب بنفس القالب ، و بمعنى أوضح نحن أمام قالبين أو ربما ثلاثة قوالب ، و لهذا مدلول مهم جدا ، فهو مؤشر على أن الدنانير التي ضربت باسم “شجر الدر” لم تكن قليلة بالقدر الذي كنا نعتقده ، ربما صُهِرَت و أعيد سكها في مرحلة لاحقة ؛ و ربما مازالت الأرض تخفي في جوفها بعض المفاجآت التي قد تظهر في وقت ما أو لا تظهر على الاطلاق 

المصادر

* Paul Balog , The coinage of the Mamluk sultans of Egypt and Syria / Plate I .
 
* Eman Arafa , The legitimacy of SHAJAR AL-DURR reign as represented in light of a Rare Dinar – Egyptian Journal of Archaeological and Restoration Studies/Vol. 6 Jun 2016 p 25-70.
 
* Sylloge of Islamic Coins in the Israel Museum , The Paul Balog Collection / Egypt vol. III
 
 
 
 
 
 
 

تنويه

حصل المؤلف على اذن مسبق لنشر الدينار الثالث و ذلك من مالكه السيد الأستاذ يحيى جعفر ، فله منا جزيل الشكر و التقدير ،، أما الدينار الثاني فقد تواصل المؤلف مع ادارة المتحف الاسرائيلي بالقدس لطلب صورة حديثة له لكن لم يتم ارسال الصورة المطلوبة رغم ترحيب ادارة المتحف في بداية الأمر ، و لذا فقد اكتفينا بالصورة القديمة التي سبق أن نشرها الدكتور بول بالوج ،، أما الدينار الأول فقد راجع المؤلف ترخيص النشر العام للمتحف البريطاني بلندن و الذي يبيح نشر صورة الدينار من دون الحصول على اذن خاص بشرط  ذكر مصدر الصورة  و هذا ما فعلناه.

لمزيد من المواضيع المشابهة يمكنك تصفح موقع المقتني العربي من الرابط التالي:

01 شجر الدر Shajar al-Durr

Previous articleطابع تذكاري بمناسبة تاسيس إذاعة دمشق
Next articleالمركزي يطرح ورقة جديدة للتداول من فئة 2000 ليرة سورية
محمد عبد الحميد
مهندس مصري و باحث حر في تاريخ المسكوكات Egyptian engineer and freelance researcher in the history of coins