وابورات البوستة الخديوية

يمثل البريد البحري جانبًا مركزيًا من تطور شبكات الاتصال في مصر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكانت “وابورات البوستة الخديوية” إحدى أبرز أدوات هذا التحول، حيث أدت دورًا محوريًا في الربط بين موانئ مصر ومراكز التجارة الإقليمية والدولية. في هذا البحث، نسلط الضوء على الأبعاد التنظيمية والوظيفية لهذه السفن، وعلى ما توفر من وثائق بريدية وأختام نادرة تعكس طبيعة الخدمة، وظروف تشغيلها، والسياقات السياسية والاقتصادية التي صاحبتها.

يهدف هذا العمل إلى تقديم قراءة توثيقية دقيقة تستند إلى مصادر طوابعية ووثائق بريدية أصلية، تُسهم في فهم أعمق لدور مصر في المجال البريدي البحري خلال الحقبة الخديوية وما بعدها.

نشأة البوستة الخديوية

تأسست شركة البوستة الخديوية تحت اسم شركة المجيدية (Medjidieh Company) في الأول من فبراير عام 1857، وكانت ترفع العلم العثماني، وكان نشاطها الأساسي متمركزًا في موانئ البحر الأحمر. عند تولّي إسماعيل باشا منصب الخديوي، صدر تفويض يوم 4 مايو 1863 بتأسيس الشركة المصرية للملاحة البخارية (Egyptian Company for Steam Navigation).

رغم كونها شركة خاصة اسميًا، إلا أن الخديوي كان يملك فيها حصة مالية مباشرة، وكانت خاضعة لرقابة حكومية مشددة.

وقد استحوذت الشركة الجديدة على الأسطول التابع لشركة المجيدية، والذي كان يتألف من ست سفن آنذاك. في 7 أبريل 1864، منحت الشركة حق احتكار نقل الركاب والبضائع عبر نهر النيل والقنوات المصرية، كما صرّح لها السلطان العثماني باستخدام اسم شركة العزيزية المصرية (Azizieh Misri Company). وسرعان ما توسع الأسطول بشراء سفن جديدة، مما مكّن الشركة من توسيع نشاطها ليشمل الملاحة الداخلية، إضافة إلى البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر.

صدر إعلان بريدي يوم 3 مايو 1865 يعلن عن تسيير رحلات أسبوعية من الإسكندرية والسويس؛ كانت الرحلات المنطلقة من الإسكندرية تصل إلى القسطنطينية خلال ثلاثة أيام ونصف. أما خدمات البحر الأحمر فباتت أقل انتظامًا، حيث أصبحت الرحلات تُسيّر كل عشرة أيام تقريبًا بحلول عام 1867. رغم هذا التوسع، ظلت الشركة تحقق خسائر مالية مستمرة.

وفي عام 1870، قررت الحكومة المصرية الاستحواذ الكامل على الشركة، مع تغيير اسمها إلى إدارة البواخر البريدية الخديوية (Administration des Paquebots Postes Khediviaux). تعرضت الخدمة إلى توقف مؤقت في عام 1877 بسبب الحرب الروسية–التركية، لكنها استؤنفت في يونيو 1878. ومع استمرار الخسائر، تقرر في نهاية المطاف بيع الشركة إلى شركة بريطانية في عام 1898، وتحول اسمها إلى شركة البريد والأحواض الخديوية (Khedivial Mail and Graving Dock Company).

ولأغراض التبسيط، يشير المؤرخون إلى هذه الشركة غالبًا باسم خط البريد الخديوي (Khedivial Mail Line – KML)، بغض النظر عن التسميات الرسمية التي تغيرت عبر الزمن.

أختام البوستة الخديوية

يمكن التمييز بين الخدمات البريدية البحرية الرسمية بالبوستة الخديوية والخاصة بناءً على الجهة المشغّلة للخدمة. ففي الحالات التي لم يتم فيها تشغيل مكتب بريد حكومي على متن السفن، كان يقوم موظف السفينة (Purser) بمهام البريد، وغالبًا ما كان مزودًا بختم بريدي خاص. كانت هذه الأختام تحدد اسم السفينة أو اسم الشركة المشغّلة، لكنها في الغالب لم تكن تتضمن تواريخ. تُعتبر أقدم الأختام المعروفة لخط ملاحي خاص هو ختم بواخر الدولة العثمانية (Piroscafi Ottomani)، وهي شركة إيطالية الأصل كانت تخدم بالأساس مدينة القسطنطينية وموانئ بحر إيجه. وقد كان لها وكالة قصيرة العمر في الإسكندرية، وهناك أظرف غير مختومة بطوابع، ولكن تحمل ختمها، تم توثيق أمثلة منها تعود لعام 1863. ويُعتبر العثور على هذه الأظرف نادرًا جدًا (لم يتم تسجيل سوى أقل من خمس قطع).

وقد شكّلت هذه الأختام أداة تعريف غير رسمية للخدمة البريدية البحرية، لكنها ذات أهمية طوابعية كبيرة، كونها تعكس مسارات النقل ومشغلي الخدمة. يُلاحظ أن بعض هذه الأختام استُخدم لاحقًا لأغراض داخلية أو ترويجية ضمن الشركات نفسها، ما يفتح بابًا للتمييز بين الاستخدام البريدي الحقيقي والاستخدام الإداري أو التجاري. رغم ندرتها، إلا أن دراسة هذه الأختام تُمكّن الباحث من تتبع تطور البريد البحري غير الرسمي، ومدى تداخله مع الشبكات البريدية الرسمية في مصر وخارجها.

سفن البوستة الخديوية

استخدمت سفن خط البريد الخديوي، التي كانت تُسيّر رحلاتها في البحرين الأبيض والأحمر، ما لا يقل عن خمسة أنواع من الأختام ذات الطابع الدعائي. وقد لجأ بعض الهواة إلى استخدام هذه الأختام كأدوات لإلغاء الطوابع، رغم أنها لم تكن جزءًا من النظام البريدي الرسمي. وقد صُنّفت هذه الأختام ضمن الفئة المعروفة برمز SP.P– (اختصارًا لـ Sea Post – Private)، وهي فئة تُستخدم للتوثيق غير الرسمي في الدراسات الطوابعية.

الأختام المسجلة تضمنت أسماء السفن التالية:

• RODA
• BOULAC
• RASHID
• TAIF
• TALODI
• BELKAS

معظم الأظرف المتاحة في السوق مصدرها تاجر طوابع شهير في الإسكندرية يُدعى F. Hendrey، حيث قام بين 1928 و1932 بإعداد كمية كبيرة من الأظرف المختومة باستخدام هذه الأختام، وغالبًا ما كانت العناوين بخط يده، موجهة إما إلى نفسه (بنك باركليز أو صندوق بريد) أو إلى عملاء آخرين. رغم أن هذه الأظرف تبدو وكأنها مفتعله، إلا أنها سافرت فعليًا عبر البريد وكانت مختومة بطوابع صحيحة بالقيمة، مما يجعلها قطعًا بريدية أصلية وليست ملفّقة بالكامل. لاحقًا، أصبح Hendrey أكثر جرأة، حيث استخدم طوابع من دول أخرى غير مصر، وتم تسجيل أظرف مختومة بطوابع بلجيكا الاستوائية (الكونغو البلجيكي) مثلًا. على الرغم من أن Hendrey قام بعمل مجموعة مختلفة من الأظرف الا ان ما تبقى منها حالياً يُعد من الأظرف النادرة والمسافر منها بأختام بريدية عدد قليل جداً بعض الأختام لا تتعدى 6 مغلفات مسافرة وبعض من الأختام لا يتعدى 3 أظرف فقط.

وسبب ان هذه الاظرف كان يتم اعتماد ارسالها انه خلال مؤتمر فيينا للاتحاد البريدي العالمي (UPU) عام 1891، تم تطوير اتفاقية خاصة بالبريد الصادر من السفن، لتنظيم التعامل مع البريد المُرسل من أعالي البحار (خارج المياه الإقليمية). نصت الاتفاقية على أن الرسائل التي تُرسل من على متن السفن تكون مُعتبرة مدفوعة الأجر بصورة صحيحة إذا كانت تحمل طوابع الدولة التي ترفع السفينة علمها، أو طوابع الدولة التي كانت آخر ميناء توقفت فيه السفينة، بشرط أن يتم تسليمها إلى مكتب البريد في الميناء بواسطة موظف السفينة (Purser).

المصادر:

• Smith, Peter A.S.
  Egypt: Stamps & Postal History – A Philatelic Treatise.
  Lichtenstein Press, 1999.
• Union Postale Universelle.
  Procès-verbaux du Congrès de Vienne, 1891.
  Berne: Bureau International de l’UPU, 1892.
• Hogarth, David.
  The Khedivial Mail Line and the Egyptian Steam Navigation Company.
  Egyptian Philatelic Society Bulletin, Vol. 17, No. 4, 1982.
• محمود حسن.
  دراسة أرشيفية وثائقية للسجلات العربية في ديوان وابورات البوستة الخديوية.
  بوابة الباحث العربي “أريد”، 2021.
• دار الوثائق القومية – مصر.
  أرشيف ديوان وابورات البوستة الخديوية، سجل المراسلات 1865–1898.
  (مخزون وثائقي رسمي غير منشور، متاح للباحثين بالمطالعة المباشرة).

لمزيد من الموضوعات المشابهة يمكنك تصفح موقع المقتني العربي من خلال الرابط التالي: