قصة الطيران والبريد الجوي المصري

3
تأسست مصر للطيران عام ١٩٣٢ عن طريق بنك مصر علي يد زعيمها الاقتصادي الوطني طلعت حرب وهو كان ابن موظف صغير بهيئة سكك حديد مصر لكنه نشأ معاديا للوجود الاجنبي المسيطر وقتئذ علي المالية المصرية، الا انه بهمة وعزيمة وثبات استطاع اخيرا تحقيق حلم الكثير من المصريين بتأسيس بنك مصر عام ١٩٢٠ لينافس البنك الأهلي والبنك الايوني (اليوناني)..
والمدقق لتاريخ طلعت حرب يدرك ان الرجل وان كان معاديا “للسيطرة” الاجنبية علي الاقتصاد المصري الا انه لم يعترض ابدا علي “التعاون” مع بريطانيون – شريطة ان يكونوا تابعين للقطاع الخاص البريطاني وليسوا موظفين في الحكومة البريطانية – في تأسيس الصناعات المصرية الوطنية. ففي الثلاثينيات بدأ بنكه في تمويل شركات مصرية عديدة ومن ضمنها مصر ايروورك Misr Airwork. وجدير بالذكر ان شركة طيران المملكة المتحدة “امبيريال ايروايز” كانت قد اعربت عن رغبتها في تأسيس شركة طيران مصرية بالتعاون مع طلعت حرب الا ان طلبها قوبل بالرفض من البنك المصري لكن نفس البنك رحب بان يتعاون مع شركة طيران انجليزية خاصة تدعي “هيستون ايروورك ليمتد” Heston Airwork Ltd. لتأسيس “مصر ايروورك”.
ونص الاتفاق علي تدريب الطيارين المصريين وانشاء المطارات وبعض المهام لوجيستية اخري علي ان يمتلك البنك حصة ٦٠٪؜ من اسهم الشركة الجديدة وتمتلك “هيستون” ٤٠٪؜.
ومن طرائف الشركة الوليدة انها – كعادة الحكومات في كل الازمنة والامكنة – اضطرت ان تعرض تخفيضا قدره ١٥٪؜ علي تذاكر الطيران لكل موظفي الحكومة المصرية (حتي ولو كانت لرحلة لا علاقة لها بالعمل) في مقابل الفوز بدعم حكومي سنوي وعقد احتكار لخطوط الطيران داخل المملكة!
مقر الشركة الأول كان في الماظة بالقاهرة الا انها كذلك اقامت مراكز تدريب للطيارين في الاسكندرية وبورسعيد. اما نواة الاسطول الجوي فكان عددا بسيطا من طائرات “دي هاڤيلاند” ٨٩ و ٨٦ وهي كلها كانت طائرات صغيرة الحجم فيكفي ان نعرف ان احداها كان سعة ١٤ راكب والاخري ٦ ركاب فقط الي جانب خدمة نقل البريد!
وشرعت الشركة الوطنية في تطوير خطوط الخدمة سريعا، ففي يوليو ١٩٣٣ ادارت خط اسبوعي بين القاهرة والإسكندرية ومرسي مطروح، ثم في يوليو من نفس العام اعلنت عن تشغيل رحلتان يوميا بين القاهرة والاسكندرية تم زيادتهم الي ٣ رحلات عام ١٩٣٥ ثم ٤ رحلات عام ١٩٤٤. كذلك في ديسمبر ١٩٣٣ انشأت خط شتوي يعمل بين القاهرة والاقصر واسوان مرتان اسبوعيا وكذلك خط الإسكندرية- بورسعيد-القاهرة-المنيا-اسيوط عام ١٩٣٦.
في عام ١٩٣٤ وجهت “مصر ايروورك” انظارها لخارج القطر المصري، واذ ذاك افتتحت خط فلسطين ليعمل مرتان اسبوعيا مابين القاهرة واللد وحيفا وتلاها خطوط لقبرص (نيقوسيا) وغيرها من الدول.
احد رواد الطيارين “ج. فليمنج” كتب في مذكراته عن الشركة “انها من انجح شركات الطيران، بها العديد من الطيارين البريطانيون والمتدربين المصريين الي جانب عدد لا بأس به من المهندسين المصريين” كذلك ذكر ان خلال ٥ سنوات قضاها مع الشركة، ان طائرات “مصر ايرووورك” قطعت ٧ مليون ميل دون حادث واحد او اصابة واحدة لأي راكب وان هذا يرجع لمهارة المهندسين واخلاصهم في العمل”.
مع اغلب الخطوط السابق ذكرها عملت الشركة علي نقل البريد جوا جنبا الي جنب مع الركاب، فنجدها حملت اظرف من قبرص للقاهرة مابين ١٩٣٥ حتي ما قبل الحرب العالمية الثانية.
اما عن انشاء خط حيفا فكان الغرض منه ان يتم نقل البريد جوا لفلسطين ثم يشحن لبيروت ودمشق من خلال السيارة الا ان السلطات السورية علي ما يبدو لم تتمكن من ضمان النقل بشكل يومي مما ادي لتأخر البريد وبالتبعية لأغلاق الخط في ٢٢ سبتمبر ١٩٣٥.
واجهت الشركة صعوبات جمة مع الحكومة المصرية، فمن جهتها، اعتبرت الشركة نفسها انها شركة الطيران الوطنية المصرية ولذلك طالبت الحكومة ان تعاملها اسوة كما تتعامل اغلب الحكومات الاجنبية مع شركاتها الوطنية، خصوصا مع ارتفاع تكاليف الخدمة مما ادي بالشركة ان تعتمد اكثر فاكثر علي عقود الاحتكار التي تقدمها الحكومة. وتعقدت المشاكل اكثر اذ ان الحكومة كانت تتعنت فتصر علي ان تكون مدة اي عقد عام واحد فقط فما ان ينتهي العقد حتي تبدأ المباحثات لتجديده، الامر الذي كان منهكا للطرفين.
وكما لو ان الشركة كانت تحتاج لمزيدا من العراقيل، عمل احد اعضاء مجلس ادارتها وهو النبيل محمد طاهر باشا (وهو ايضا كان من اعضاء الاسرة المالكة وكذلك رئيس نادي الطيران المصري) تأمر من اجل تأسيس شركة جديدة منافسة واطلق عليها “خطوط طيران حورس” لتعمل علي خط القاهرة-برلين. طاهر باشا والذي كان يشغل منصب نائب رئيس شركة “سيمنز” الشرق وله صلات المانية قوية قام بالمستحيل للحصول علي الموافقات المطلوبة، لكن علي كل حال تدخلت الحكومة المصرية في النهاية ومنعت قيام خطوط طيران حورس.
في ١٦ سبتمبر ١٩٣٦ تم انشاء خط بورسعيد-بغداد البريدي والذي وصفه احد الطيارين بانه أسوأ خط طيران ممكن تخيله نظرًا للاضطرابات الجوية صيفا وشتاء علي حد سواء!
في ٣ سبتمبر ١٩٣٩ ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية توقفت اعمال “مصر ايروورك” لفترة قصيرة ثم اعيد افتتاح اغلب الخطوط علي مراحل وبحذر من جانب المسؤولين المصريين وكذلك مراعاة للتغييرات النابعة من ظروف الحرب، فبدلا من نقل الركاب والبريد الخاص فقط اضحت تنقل ضباط الجيش والبريد الحربي والبريد الديبلوماسي ، كذلك بعد سقوط فرنسا في يد قوات المحور اصبحت تنقل البريد المتجة لليونان ودول البلقان الي مدينة اضنة التركية ومنها يتم نقل البريد برا.اما عن خط العراق فاضطرت لإيقافه لفترة عند اندلاع المظاهرات هناك وكذلك خط سوريا اثناء المعارك مع قوات حكومة ڤيشي الفرنسية الموالية للنازي عام ١٩٤١ واخيرا تم ايضا اغلاق خط قبرص وتركيا لفترة وجيزة.
لكن الشركة الصغيرة ابت ان تقبل بالهزيمة وتغلق ابوابها، ففي عام ١٩٤٢ عملت علي افتتاح خطوط جديدة كالقاهرة-بيروت مرتان في الاسبوع والقاهرة-الخرطوم مرة واحدة في الاسبوع وايضا خط القاهرة دمشق مرتان في منتصف ١٩٤٤.
عندما وضعت الحرب اوزارها، كانت الشركة اثبتت نجاحا عظيما خصوصا نظرا لظروف الحرب، واضحت تملك اسطولا لا بأس به مكون من ١٤ طائرة استطاعت من خلاله ان تسيطر علي خط البريد السريع (الاكسبريس) بين المدن الكبري داخل القطر المصري.
في عام ١٩٤٩ كانت اسهم “هيستون” قد انخفضت حتي وصلت ل١٠٪؜ فقط وفي احتفالية ضخمة ام تمصير الشركة بالكامل وعرفت بأسم “مصر اير” MisrAir.
حافظت “مصر اير” علي مقرها في مطار الماظة حتي عام ١٩٥٦ عندما تم نقله لميناء القاهرة الدولي – والذي كان في السابق مطارا امريكيا معروف بإسم “مطار پاين” Payne’s Airfield، ولهذا المطار قصة ربما تكون غير معروفة للكثيرين اذ ان بعدما وضعت الحرب اوزارها قرر الملك فاروق شراءة من جيبة الخاص ووضعه تحت تصرف الحكومة المصرية والتي بدورها اطلقت عليه اسم “مطار فاروق” Aeroport Farouk واقامت به مكتبا بريديا ظل يعمل بهذا الاسم من يوليو ١٩٤٧ حتي اغسطس ١٩٥٢ الا ان سكان المنطقة كانوا يطلقون عليه اسم “مطار پاين” حتي الستينيات.
تحول المطار بعدها لمطار عسكري واخر مظروف تم ختمه بخاتم مكتب بريد الماظة مسجل بتاريخ سبتمبر ١٩٦٦. اما عن الشركة ففي عام ١٩٥٨ بعد اتحاد مصر وسوريا لتكوين الجمهورية العربية المتحدة اتحدت كذلك شركة الطيران السورية مع “مصر اير” وكونا سويا “خطوط طيران الجمهورية العربية المتحدة” United Arab Airlines الا ان الانفصال السياسي بين القطرين والذي وقع في ١٩٦١ ادي لسحب سوريا طائراتها لكن احتفظت مصر بالاسم كما هو حتي عام ١٩٧١ عندما تم تغيير اسم الشركة للمرة الاخيرة ليصبح ايجيبت اير EgyptAir.
في الستينيات ومطلع السبعينيات اعتمدت الشركة علي الموديلات السوفياتية في اغلب طائراتها نظرا للتقارب السياسي والعسكري مع الكتلة الشرقية حينذاك الا انها في الثمانينيات عادت لتقترب اكثر من الغرب، وتعد حاليا مصر للطيران من اكبر شركات الملاحة الجوية في الشرق الاوسط وعضوا في مجموعة Star Alliance للطيران وتخدم العشرات من الخطوط بالرغم من نشأتها المتواضعة في خيال طلعت حرب..
محب رزق الله
المصادر:
– جون سيرز “البريد الجوي المصري” ١٩٩٠
– حلقة الدراسات البريدية المصرية QC 200
– السماء الزرقاء – ج. فليمنج ، مذكرات طيار سابق بمصر
Previous articleالإمارات تطلق ورقة نقدية جديدة فئة 50 درهماً من البوليمر
Next articleطابع بريد تذكاريًّا بمناسبة الاحتفال بالذكرى الـ 70 لعيد الشرطة